آفاقُ بناء قيمة مستدامة بالذكاء الاصطناعي المفتوح والقابل للتوسُّع
بقلم أنيربان موكيرجي، مدير هندسة الحلول في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ريد هات

06 أكتوبر 2025: مع ظهور تقنيات متقدمة مثل الذكاء الاصطناعي وتعلم الآلة وتحليلات البيانات، تعكف المؤسسات الخاصة والعامة حول العالم على إحداث تحول في طريقة عملها واتخاذ قراراتها وتقديم القيمة للعملاء في الزمن الفعلي. وفي هذا السباق نحو الاستفادة من الإمكانات الكاملة للأنظمة الذكية، لا يقتصر التميز على كيفية استخدام الذكاء الاصطناعي، بل يشمل بناءه بشكل استراتيجي وآمن وبما يتوافق مع الأهداف التجارية طويلة المدى.
وهنا يبرز الذكاء الاصطناعي المفتوح والقابل للتوسع كعامل محوري؛ ففي حين أن خدمات الذكاء الاصطناعي الجاهزة والمستضافة على المنصات العامة والمبنية على نماذج ذات طبيعة خاصة تَعِدُ بتحقيق نتائج سريعة، إلا أنها غالباً ما تتجاهل عناصر التحكم طويلة المدى والامتثال والاستقلالية. لذلك فإن السؤال الحقيقي يتمحور حول من يملك التكنولوجيا، وليس كيفية استخدامها، على صعيد القيمة التجارية طويلة المدى والحوكمة والأمان. ويعد ذلك أمراً بالغ الأهمية خاصة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تتسارع وتيرة التحول الرقمي، مدفوعاً بمبادرات طموحة تقودها الحكومات وتهدف إلى جعل المنطقة مركزاً عالمياً للابتكار.
من التطلعات الطموحة إلى الخطوات العملية
تستثمر منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير في الذكاء الاصطناعي؛ فوفقاً لــــ"بي. دبليو. سي" (PwC)، فإن المنطقة في طريقها لتحقيق أكثر من 320 مليار دولار أمريكي من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي بحلول العام 2030، حيث تتصدر المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة هذا المسار. وتسرّع الاستراتيجيات الوطنية وتيرة التحول الرقمي في جميع القطاعات، وهو ما يتجلى في طموح أبوظبي لتكون أول حكومة محلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي في العالم خلال العامين القادمين بموجب استراتيجية حكومة أبوظبي الرقمية 2025-2027 إلى رؤية السعودية 2030.
وعلى الرغم من هذا الزخم، لا تزال العديد من الشركات في المنطقة في المراحل المبكرة إلى المتوسطة من اعتماد الذكاء الاصطناعي؛ فالعديد من الفرق التنفيذية في الشرق الأوسط حريصة على تبني الذكاء الاصطناعي، لكن أقسام تكنولوجيا المعلومات الداخلية غالباً ما تفتقر إلى الأدوات والأطر والمواهب اللازمة لاتخاذ هذه الخطوة بشكلٍ آمن وفعال. ونتيجة لذلك، تعتمد المؤسسات بشكل متزايد على الموردين الخارجيين، ما يعرضها لمخاطر مثل تكنولوجيا المعلومات الظلّية (Shadow IT) وخروقات البيانات وفقدان الاستقلالية الاستراتيجية.
فهم طبيعة الفجوة والعمل على معالجتها
تقدم نماذج الذكاء الاصطناعي العامة أو المستضافة مزايا السرعة والراحة، إلا أن ذلك يترافق مع مقايضات كبيرة. وتستخدم هذه النماذج اليوم النماذج اللغوية الكبيرة (LLMs) ذات الطبيعة الخاصة مثل ChatGPT وGemini وClaude، أو يتم تدريبها على الإنترنت المفتوح، وليس على مجموعات البيانات الخاصة بالمؤسسات.
وبينما تبدو هذه النماذج متميزة في المهام العامة، إلا أنها غالباً ما تتعثر عند تطبيقها على حالات استخدام عالية التخصص أو خاضعة للتنظيم. والأهم من ذلك، يسبب تحميل البيانات التجارية السرية أو الحساسة إلى أنظمة الطرف الثالث مخاوف جدية بشأن الخصوصية والامتثال وسيادة البيانات، خاصة في قطاعات مثل الحكومة والرعاية الصحية والخدمات المصرفية والمالية. وتشمل أبرز المقايضات على هذا الصعيد:
1. أمن البيانات وتسرب الملكية الفكرية: إنَّ إرسال البيانات الخاصة إلى نماذج الطرف الثالث يعرض المعلومات الحساسة لخطر التسرب، كما أنَّ النماذج العامة يتم تدريبها على مجموعات بيانات عامة - وليس على بياناتٍ خاصةٍ بالمؤسسات - وهي توفر رؤية أو تحكماً محدوداً في مكان تدفق البيانات وكيفية استخدامها.
2. تحديات الامتثال والحوكمة: تتطلب البيئات التنظيمية مثل GDPR وHIPAA والتفويضات الخاصة بالقطاع ضوابط صارمة على موقع البيانات ومعالجتها والوصول إليها. وغالباً ما تعمل النماذج المستضافة في بيئات "الصندوق الأسود" التي لا يمكنها تلبية متطلبات التدقيق والامتثال.
3. قلة التخصيص: يتم تدريب النماذج الأساسية على مجموعات بياناتٍ عامة وشاملة. ويؤدي انعدام الوصول إلى قواعد المعرفة الداخلية وسجلات العملاء والبيانات الخاصة بمجال معين، إلى عمومية الاستجابة، مما يحد من جدوى استخدامها في سير العمل المؤسسي.
ولهذا السبب، وللتخفيف من هذه المخاطر وضمان استمرارية عملياتها في المستقبل، يجب على الشركات أن تدرك الحاجة إلى امتلاك البنية التحتية الخاصة بها للذكاء الاصطناعي، وأن تحول موقعها من "مستهلك للأدوات" إلى "باني للحلول". ومن خلال تطوير حلول داخلية، يمكنها الحفاظ على السيطرة الكاملة على بياناتها، وتخصيص أنظمة الذكاء الاصطناعي لتعكس السياقات التجارية الخاصة بها، وضمان قابلية التوسع والحوكمة منذ البداية.
دور النماذج مفتوحة المصدر والذكاء الاصطناعي الخاص
بالنسبة للمؤسسات التي تتساءل من أين تبدأ، توفر نماذج الذكاء الاصطناعي مفتوحة المصدر أساساً قوياً وعملياً. وقد شهدت التقنيات مفتوحة المصدر "طفرةً في القدرات" خلال العامين الماضيين، فتفوقت نماذج مثل Llama وMistral وPhi-2 وQwen وDeepSeek وGranite وغيرها الكثير على النماذج ذات الطبيعة الخاصة في حالات الاستخدام المؤسسي. وعلى عكس المنصات ذات الطبيعة الخاصة، تقدم النماذج مفتوحة المصدر الشفافية والمرونة، وعائقاً أقل للدخول. وتوفر هذه المنظومة أساساً غنياً من الأدوات والنماذج والأطر التي تمكن المؤسسات من بناء حلول ذكاء اصطناعي مصممة خصيصاً لاحتياجاتها، دون قيود الارتباط ببائع معين أو البنى ذات الطبيعة الخاصة. وتمكن مرونة المصدر المفتوح المؤسسات من تجربة حلول الذكاء الاصطناعي والتكرار فيها وتوسيع نطاقها بطرق فعالة من حيث التكلفة ومتوافقة مع تفويضات الحوكمة والامتثال الداخلية.
يشير الذكاء الاصطناعي الخاص إلى تطوير ونشر خدمات الذكاء الاصطناعي داخل بيئة خاضعة لسيطرة المؤسسة، سواء في الموقع أو في سحابة خاصة أو عبر بنية تحتية هجينة باستخدام نماذج مفتوحة المصدر.
نماذج صغيرة محسّنة ومصممة خصيصاً لتقليل التكلفة وتحسين الأداء.
مواءمة النموذج مع بيانات المؤسسة باستخدام تقنيات مثل التوليد المُعزّز بالاسترجاع (RAG)، والضبط الدقيق.
نشر واسع النطاق على مستوى المؤسسة عبر بيئات سحابية هجينة.
ومن خلال التعامل مع الذكاء الاصطناعي كخدمة مثل الحوسبة والتخزين وغيرها من المنصات المؤسسية، تستهلك الفرق الداخلية الذكاء الاصطناعي بشكل آمن وفعال، بينما تحتفظ فرق تكنولوجيا المعلومات بالسيطرة الكاملة.
لا تقتصر إدارة الذكاء الاصطناعي على التحكُّم فحسب، بل إنها تشكل نقلةً تجاريةً أكثر ذكاءً:
اقتصاديات قابلة للتنبؤ: تتيح نماذج وحدات معالجة الرسوميات كخدمة للفرق مشاركة الموارد، وإدارة الحصص، ومنع أوقات الخمول، مع تجنب العجز عن التنبؤ بأسعار السحابة لكل رمز مميز.
التخلص من تكنولوجيا المعلومات الظلية: من خلال تقديم خدمات الذكاء الاصطناعي المركزية داخلياً، تساعد ريد هات فرق تكنولوجيا المعلومات على تقليل الأدوات المجزأة والاستخدام غير المصرح به لواجهات برمجة التطبيقات الخارجية.
ابتكار أسرع، مخاطر أقل: مع الذكاء الاصطناعي الخاص، يمكن للمطورين وعلماء البيانات إنشاء نماذج أولية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وضبطها، ونشرها باستخدام بيانات المؤسسة، مع الحفاظ على الامتثال للسياسات الداخلية والمتطلبات التنظيمية.
تقديم خدمات الذكاء الاصطناعي الموحدة: من خلال النماذج كخدمة، تُمكّن ريد هات المؤسسات من توزيع قدرات الذكاء الاصطناعي على جميع الأقسام، من دعم العملاء إلى الهندسة، دون المساس بالرقابة والحوكمة.
من خلال تبني الذكاء الاصطناعي الخاص، يمكن لمديري تكنولوجيا المعلومات تحقيق الاستفادة الكاملة من بيانات مؤسساتهم، وخفض التكاليف والمخاطر، وتقديم تجارب ذكاء اصطناعي أكثر ذكاءً وتخصيصاً. ففي سباق التوسيع المسؤول لنطاق الذكاء الاصطناعي، سيكون التفوق مستقبلاً من نصيب من يبنون مساراتهم الخاصة.
التطبيقات الواقعية: دراسات الحالة الإقليمية
قطاعان مختلفان للغاية يشيران إلى نفس النتيجة: الذكاء الاصطناعي المفتوح الخاص يحقق مكاسب تجارية صعبة.
في دينيز بنك (DenizBank)، قامت إنترتك (Intertech) بتوحيد حزمة ذكاء اصطناعي خاصة قائمة على الحاويات، ووفرت لأكثر من 120 عالم بيانات منصات عمل ذاتية الخدمة. وبالتالي، انخفض وقت طرح النماذج الجديدة في السوق من أسبوع تقريباً إلى حوالي 10 دقائق، بينما ساهم "تقسيم" وحدة معالجة الرسومات في الحد من هدر موارد المُسرّع. والأهم من ذلك، أن الفرق الآن تدخل نماذج الخدمات المصرفية الأساسية، المتمثلة في تقييم مخاطر الائتمان واكتشاف الاحتيال، إلى الإنتاج بسرعة كافية للتأثير على القرارات الفورية.
وفي مجال الطاقة، طوّر مركز أرامكو الرقمي لأنشطة التنقيب والإنتاج قاعدةً لتقنيات الذكاء الاصطناعي (GenAI) تعمل ضمن بيئته الخاصة لتوحيد الموارد وتبسيط سير العمل في أنشطة التنقيب والإنتاج. وأدى ذلك إلى تمكين مهندسي الحفر والمنشآت من إنجاز التحليلات الروتينية أسرع بعشر مرات، مما يوفر حوالي ساعتين للشخص يومياً، إلى جانب دمج النماذج الجديدة في أقل من ساعة، وهو وقتٌ يمكن الاستفادة منه في نمذجة باطن الأرض، وتحسين عمليات الحفر، ومراقبة الإنتاج، وغيرها من المهام عالية القيمة. وتُطبّق الشركة أيضاً الذكاء الاصطناعي على تقييم المخاطر التشغيلية، مثل التنبؤ بحرق الغاز واكتشاف أعطال المكونات، للحفاظ على كفاءة الإنتاج وفعالية المعدات.
وعلى مستوى القطاع المصرفي وقطاع النفط والغاز، يعد النمط متسقاً ويتجلى في المعادلة التالية: الأدوات المفتوحة مضافةً إلى النشر الخاص = تسليم أسرع للنماذج وحوكمة أكثر صرامة ومكاسب إنتاجية قابلة للقياس.
وفي المملكة العربية السعودية، تعد شركة أرامكو كياناً حكومياً مهماً يستخدم الذكاء الاصطناعي في المسوحات الجيولوجية المعقدة.
لمحة عن المستقبل: الذكاء الاصطناعي الوكيل
لعلّ الذكاء الاصطناعي الوكيل هو أبرز المجالات التي تستقطب الاهتمام حالياً، وهو نقلةٌ نوعية من نماذج الاستجابة السريعة الحالية إلى وكلاء مستقلين قادرين على التفاعل مع تطبيقات المؤسسة لإكمال سير العمل بالكامل. تخيّل وكيل ذكاء اصطناعي لا يجيب على الاستفسارات فحسب، بل يُحدّث إدخالات (Salesforce) تلقائياً، ويُطابق الفواتير في (SAP)، ويُجدول الاجتماعات بناءً على التوافر الفوري. وبخلاف المساعدين الخارجيين القائمين على (SaaS)، يُمكن دمج الذكاء الاصطناعي الوكيل المُدمج داخلياً بشكل وثيق مع الأنظمة الداخلية، مما يُطبّق ضوابط وصول صارمة، ويعزز خصوصية البيانات، وقابلية التدقيق.
واليوم، تستثمر الشركات في هذا المستقبل من خلال أطر عمل مفتوحة مثل (MCP) (بروتوكول سياق النموذج) و (Llama Stack)، المصممة لتمكين المؤسسات من تطوير وكلاء الذكاء الاصطناعي المستقلين بالكامل والقابلين للتدقيق.
خطوةٌ استراتيجية
يقدم الذكاء الاصطناعي فرصة هائلةً للشركات والحكومات في الشرق الأوسط، ولكن ذلك يتوقف على وجود رؤية بعيدة المدى. فبناء الذكاء الاصطناعي داخلياً باستخدام المصادر المفتوحة لم يعد ترفاً، بل ضرورة استراتيجية، إذ يضمن التحكم، ويعزز الابتكار، ويحمي البيانات، التي تشكّل أساس الاقتصاد الرقمي.